لفافة التبغ تلفظ أنفاسها ...الواحدةَ تلو الأخرى في سحب زرقاء تتراقص أمام عينيه وهو يتأملها كيف تنقشع في سكون غرفته... و من حين لآخر، يرقب بطرف عينه الهاتف على المنضدة.....ثم يعود ليراقب سحب لفافته...و ينتظر.
صوت الرنين يوقضه من حلمه...يرفع السماعة...و يطلق زفرة لفافته الأخيرة
ـ ألو!
ـ تأخرتُ عليكَ؟
يأتيه صوتها الناعم كما يأتي الغيث للأرض الظمآى، فهو عطشان....يريد أن يرتوي
ـ لا..بل في الوقت المناسب...لقد وصلت منذ قليل
ـ و كيف قضيت يومك؟
ـ كمسافر ينتظر!
ـ و ماذا تنتظر؟؟
ـ رنين الهاتف يعلن وصول صوتك ليأخذني في رحلة سرمدية لا أشكال فيها و لا أبعاد....بل أطياف و ألوان
ـ ألهذا الحد تسأم من حياتك؟؟
ـحياتي و حياتك و حياة جميع الناس مجرد أقنعة مزخرفة و ملونة حسب الطلب والظرف.....العالم مسرح كبير و نحن نمثل....نمثل على أنفسنا و على الآخر..
ـ أَلَسْتَ تفلسف الحياه؟
ـأنا لا أفلسفها....أنا أُرِيكِ ما يجري في مسرحنا الكبير
ـ و حين ينتهي العرض؟
ـ نحلم!!
صوت ضحكتها الناعمة يذكره دوماً بالماء.......أوَ ليس الماء هو الحياة.........و الحياة امرأة.
ـ نحلم؟
جل....كلٌّ منا يحلم....لكن حلمنا المشترك أن نزيل أقنعتنا و نواجه حقيقتنا....إذ ذاك...سنجد السلام الذي نبحث عنه.
ـ وبمَ تحلم أنت؟
ـ أحلم أن أتحرر...
ـ ممَّ؟
ـ من نفسي....من أقنعتي...من جدران المنزل و أرصفة الشارع.....من مدينتي....من الزمان و المكان....أريد أن أطير دون أجنحة......أن أغتسل بالشمس و ألتحف السحاب.....أن أركب الريح و أفترش البحر.. ولو تسألين أي شخص..لكان يريد ذلك.
ـ و كيف السبيل إليه؟
ـ أن نحب....بصدق و بقوة...أن نتوحد فيما نحب و فيمن نحب......إن ذلك التوحد هو الطاقة التي تحررنا.....إن لحظة التوحد هي اللحظة التي تلغي المكان و توقف الزمان و تجعل العالم كله سماء لا متناهية
ـ و مالذي يمنعنا من أن نحب بهذه الطريقة؟
ـ هل يحب الممثلون بعضهم حقا فيما نراه من قصص؟
ـ لا.....ولكن!!
ـ إذا صدف و حصل ذلك.. تتغيرالأقنعة ويجد الممثلون أنفسهم في أدوار مختلفة .... وهكذا...
موسيقى السكون تعزف نغماتِها بين طَرَفَيْ خط الهاتف بينما يفقد هو خيوط سحاب لفافته المتراقص ببطء في عتمة غرفته...
ـ لماذا سكتَّ؟
ـأستمع لموسيقى صمتِكِ العذبة!
ـ و هل للصّمت صوت؟؟
ـ له صوت كما للعيون كلام
ـ أنتَ غريب!!
ـ إنّ هذه الغرابة لهيَ السلام الذي نَنْشُدُه...من يُدركها يقال له مجنون... و من يفقدها يَتِيهُ في مس من العقل!
صوت طفل يوقظ يَقَظَتَهُ... يقوم بتثاقلٍ، يشعل مصباح غرفته و ينظر عبر النافذة إلى المدينة المزخرفة بالأنوار، يسحب من علبة سجائرهِ لُفافتها الأخيرة.... يُشعلها و يسحب نفساً عميقاً كأنه يُقَبِِّلُهَا....ينظر بطرَف عينِه إلى الهاتفِ على المنضدةِ.....يعرِفُ أنه لن يرن.....و أنَّه لا توجد ذاتُ الصوت الناعم مثل تدفق المياه....فهو لا يملِك خطَّاً.